لقد تميّزت المنظومة التربوية في العقود الأخيرة من القرن العشرين، في العديد من دول العالم، بالرهان على التربية المتّسمة بالجودة؛ حيث ركّز الاهتمام على تنمية إمكانات المتعلمين وقدراتهم الذهنية على أفضل وجه ممكن، بعد أن تأكد ما للثروة البشرية من أهمية في تطوير المجتمع وتقدمه؛ على اعتبار أنها أهم مورد تنموي على الإطلاق.
إن هذا الاهتمام الكبير بالعقل البشري وإمكاناته وأساليب نموّه وتطويره، يبرز لنا بدون شك، ملامح المنظومة التربوية المميزة لمستهل الألفية الثالثة؛ فهي منظومة تراهن على تفتيح عقول المتعلمين ورعايتها، لتكون في مستوى تطلعات مجتمعاتها، وتلعب دوراً فعّالاً في مجتمع ما بعد الصناعة، وذلك يتطلّب من الفرد أسلوباً عالياً من التكيّف المعرفي.
وسعياً لتحقيق ذلك، اتّجهت الجهود نحو التخطيط، لتطوير المناهج الدراسية وبنائها على أسس نتائج المعطيات العلمية للدراسات السيكولوجية المعاصرة، وبخاصة في ميدان علم النفس المعرفي.
وقد واكب البحث في تطوير المناهج الدراسية، تحليل ودراسة آليات التعلم، حيث اشتهرت نظريتان سيكولوجيتان اهتمتا بتفسير أسباب الاختلاف بين الطلاب في طرق التعلم، وهما: نظرية أسلوب التعلم "Learning - style theory"، ونظرية الذكاءات المتعددة. "Multiple intelligences theory"، وإذا كانت النظرية الأولى ترتبط جذورها بمجال التحليل النفسي، فإن النظرية الثانية تعد نتاج البحث في علوم الذهن Cognitive science. وقد بذلت نظرية الذكاءات المتعددة جهداً كبيراً لإعادة النظر في قياس الذكاء الذي تجسده نظرية المعامل العقلي QI، كما اهتمت بمحاولة فهم الكيفية التي تتشكل بها الإمكانات الذهنية للإنسان والطرق التي تهتم بها سيرورات التعلم؛ في حين ركزت نظرية "أسلوب التعلم" على دراسة مضامين التعلم ذاته (Harcey Silcer, Richard Strong, and Matthew Perini 1977).
والواقع أن نظرية الذكاءات المتعددة أحدثت منذ ظهورها ثورةً في مجال الممارسة التربوية والتعليمية، فهي غيّرت نظرة المدرسين عن طلابهم، وأضحت الأساليب الملائمة للتعامل معهم وفق قدراتهم الذهنية، كما شكّلت هذه النظرية تحدياً مكشوفاً للمفهوم التقليدي للذكاء، ذلك المفهوم الذي لم يكن يعترف سوى بشكل واحد من أشكال الذكاء الذي يظل ثابتاً لدى الفرد في مختلف مراحل حياته. فلقد رحبت نظرية الذكاءات بالاختلاف بين الناس في أنواع الذكاءات التي لديهم وفي أسلوب استخدامها، مما من شأنه إغناء المجتمع وتنويع ثقافته وحضارته Kathy checkley (1966)، عن طريق إفساح المجال لكل صنف منها بالظهور والتبلور في إنتاج يفيد تطور المجتمع وتقدمه.
لقد كانت الممارسة التربوية والتعليمية قبل ظهور هذه النظرية تستخدم أسلوباً واحداً في التعليم، لاعتقادها بوجود صنف واحد من الذكاء لدى كل المتعلمين، الشيء الذي يفوت في أغلبهم فرص التعلم الفعّال، وفق طريقتهم وأسلوبهم الخاص في التعلم. إن تعدد الذكاءات واختلافها لدى المتعلمين يقتضي اتباع مداخل تعليمية ـ تعلمية متنوعة، لتحقيق التواصل مع كل المتعلمين المتواجدين في الفصل الدراسي. كما أن النظام التربوي والتعليمي إلى وقت قريب كان يهمل العديد من القدرات والإمكانات للمتعلمين.
إن مقياس المعامل العقلي لا يأخذ بعين الاعتبار سوى بعض قدرات المتعلم، كالقدرة اللغوية والمنطقية والرياضية، في حين يهمل قدرات أخرى عديدة، على الرغم من قيمتها في المجتمع. إن النظام التربوي سيحقق الكثير لو اهتم بالقدرات الذهنية التي لا تأخذها مقاييس المعامل العقلي في الاعتبار، وهذا ما اهتمت به نظرية الذكاءات المتعددة التي نحاول من خلال هذا العرض التطرق لأهم جوانبها، مركّزين بوجه خاص على عوامل الجدة والأصالة في تعاملها مع المتعلمين، وفهم طبيعتهم وأساليب تعلمهم المختلفة، وكذلك دورها في تحسين المردودية التعليمية/ التعلمية.
1- ـ نظرية الذكاءات المتعددة والممارسة الفعالة:
إن المشكلة التي يعاني منها التعلم المدرسي، في الجانب المتعلق بالتدريس وأساليبه، هو ما يلاحظ عليه من الابتعاد عن عالم المتعلمين؛ فالمواد التعليمية ـ التعلمية تقدم في أغلب الأحيان بطرق جافة ومملة، دون مراعاة بيئة المتعلمين وحاجاتهم، فضلاً عن أنها لا تعير اهتماماً لمداركهم وقدراتهم العقلية المختلفة، وما تقتضيه من تنوّع أساليب التدريس لمخاطبة كل فئة بما يناسب طريقتها في التعلم، الشيء الذي جعل أغلب المتعلمين يتعاملون مع المواد الدراسية دون تأثر أو انفعال وجداني، ما ولّد لدى بعضهم النفور والملل، وجعلهم يكوِّنون اتجاهات سلبية نحو المدرّسين والمدرسة بشكل عام، خاصة في وقت يتاح لهم فيه التعامل مع العديد من الوسائل التعليمية الحديثة والمتطورة، التي أنتجتها التكنولوجيا المعاصرة، كبرمجيات الحاسوب والإنترنت والتعليم المبرمج وغيرها، والتي تعمل على إشباع حاجاتهم المعرفية بطرق حية ومشوقة.
إن نظرية الذكاءات المتعددة مقاربة جديدة تقدم فضاءً جديداً وحيّاً لعملية التعليم والتعلّم، فهي فضاء تتمحور فيه العملية التعليمية ـ التعلمية على المتعلم ذاته، بحيث يعمل وينتج ويتواصل بشكل يحقق فيه ذاته ويشبع رغباته. ومن ثمة كان لها صدى كبير في الأوساط التربوية والتعليمية، لما حققته من تفعيل العملية التعليمية ـ التعلّمية ووضعها في مسارها الصحيح. ونعرض فيما يلي لأهمّ الجوانب التطويرية لهذه النظرية في مجال الممارسة التعليمية ـ التعلمية:
أ ـ إنها مقاربة تساعد على تحسين المردودية التعليمية ـ التعلمية.
ب ـ إنها مقاربة تساعد على الرفع من أداء المدرسين.
ج ـ إنها مقاربة تراعي طبيعة كل المتعلمين في الفصل الدراسي.
د ـ إنها مقاربة تنطلق من اهتمامات المتعلمين وتراعي ميولهم وقدراتهم.
هـ ـ إنها مقاربة تساعد على تنمية قدرات المتعلمين وتطويرها.
و ـ إنها مقاربة تنصف كل المتعلمين وتعتبر أن لكل واحد منهم قدرات معينة.
إن هذه المميزات التي تتميز بها نظرية الذكاءات المتعددة جعلتها تحدث ثورة في مجال الممارسة التربوية والتعليمية في أمريكا، عقب سنوات قليلة من ظهورها، لما أحدثته من تجديد وتغيير، ساعد على استثمار إمكانات المتعلمين وتنميتها وتفعيل العمل التربوي وجعله يواكب التطور العلمي الذي حققته السيكولوجيا المعرفية التي تتحرك هذه المقاربة في إطارها العلمي.
2 ـ مفهوم نظرية الذكاءات المتعددة:
يقترح جاردنير Gardner (1983) مقاربة جديدة للذكاء، مختلفة عن المقاربة التقليدية (المعامل العقليQ.I)، وهي مقاربة مبنية على تصور جذري للذهن البشري، وتقود إلى مفهوم تطبيقي جديد ومختلف للممارسة التربوية والتعليمية في المدرسة.
إن الأمر يتعلق بتصور تعددي للذكاء، تصور يأخذ بعين الاعتبار مختلف أشكال نشاط الإنسان، وهو تصور يعترف باختلافاتنا الذهنية وبالأساليب المتناقضة الموجودة في سلوك الذهن البشري.
إن هذا النموذج الجديد للذكاء يستند على الاكتشافات العلمية الحديثة في مجال علوم الذهن وعلم الأعصاب التي لم يعرفها عصر "بينه" Binet، وقد أطلقت على هذه المقاربة اسم "نظرية الذكاءات المتعددة" Intelligence multiples.
يقول جاردنر إن الوقت قد حان للتخلص من المفهوم الكلي للذكاء، ذلك المفهوم الذي يقيسه المعامل العقلي، والتفرغ للاهتمام بشكل طبيعي للكيفية التي تنمي بها الشعوب الكفاءات الضرورية لنمط عيشها، ولنأخذ على سبيل المثال أساليب عمل البحارة في وسط البحار، إنهم يهتدون إلي طريقهم من بين عدد كبير من الطرق، وذلك بفضل النجوم وبفضل حركات مراكبهم على الماء وبفضل بعض العلامات المشتتة. إن كلمة ذكاء بالنسبة إليهم تعني بدون شك براعة في الملاحة.
ولننظر كذلك إلى المهندسين والصيادين والقناصين والرسامين والرياضيين والمدربين ورؤساء القبائل والسحرة وغيرهم. إن كل الأدوار التي يقوم بها هؤلاء ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، إذا قلبنا تعريفاً جديداً للذكاء، باعتباره كفاءة أو قدرة لحل المشكلات أو إنتاج أشياء جديدة، ذات قيمة في ثقافةٍ ما أو مجتمع ما من المجتمعات، إن كل الكفاءات والقدرات التي يظهرها هؤلاء في حياتهم وعملهم تعتبر بدون شك شكلاً من أشكال الذكاء الذي لا يقتصر على المهارات اللغوية أو الرياضيات والمنطق، التي طالما مجدتها اختبارات المعامل العقلي، وعلى هذا الأساس، فإن نظرية الذكاءات المتعددة تقف موقفاً خاصاً من اختبارات الذكاء، التي طالما مجدت وقامت بإصدار أحكام بخصوص الطلاب ومستقبلهم الدراسي (أحمد أوزي،1999).
3 ـ نشأة نظرية الذكاءات المتعددة:
في عام 1979 طلبت مؤسسة "فان لير" Bernatd Van Leer(1) من جامعة "هارفارد" Havard القيام بإنجاز بحث علمي يستهدف تقييم وضعية المعارف العلمية المهتمة بالإمكانات الذهنية للإنسان وإبراز مدى تحقيق هذه الإمكانات واستغلالها، وفي هذا الإطار بدأ فريق من العاملين المختصين بالجامعة أبحاثهم التي استغرقت عدة سنوات، قصد استطلاع وكشف مدى تحقيق هذه الإمكانات على أرض الواقع. ولقد تمّ بالفعل البحث في عدة مجالات معرفية، بتمويل من المؤسسة المذكورة. وهكذا تمّ البحث في مجال التاريخ الإنساني والفلسفي وعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. كما نظّم لهذا الغرض عدة لقاءات علمية على المستوى الدوري، تناولت قضايا تتعلق بمفهوم النمو في مختلف الثقافات البشرية.
أما الباحثون الذين ساهموا في هذه الدراسة الهامة، فإنهم ينتمون إلى تخصصات علمية متنوعة، فهناك أولاً رئيس فريق مشروع البحث، وهو "جيرالد ليسر" Gerald.S.Lesser، وهو مربٍ وعالم نفس، ثم هناك بالطبع "هاورد جاردنر". Gardner H، وهو أستاذ لعلم النفس التربوي مهتم بدراسة مواهب الأطفال وأسباب غيابها لدى الراشدين الذين حدثت لهم بعض الحوادث التي تسببت في إحداث تلف بالدماغ. وهناك أيضاً في البحث فيلسوف اشتغل في مجال فلسفة التربية وفلسفة العلوم، وهو "إسرائيل شيفلر" Israel Schefflr، ثم هناك "روبير لافين" Robert La Vine المختص في علم الانثروبولوجيا الاجتماعية والمعروف بأبحاثه في الصحراء الأفريقية والمكسيك حول الأسرة وطبيعية المساعدة المقدمة للأطفال فيها، ونجد ضمن الفريق العلمي كذلك العالمة الاجتماعية "ميري وايت" Merry White المختصة في التربية بالمجتمع الياباني ودراسة الأدوار التربوية للأفراد في العالم الثالث.
إن نظرة سريعة إلى الاختصاصات العلمية لأفراد هذا الفريق الذي تصدى لدراسة إمكانات الذهن البشري، تبين بوضوح اختلاف تخصصاتهم وتوسعها وعمقها، الشيء الذي يعكس طموح المشروع، وكذلك دور كل واحد منهم في إنجاح مشروع البحث والوصول إلى اكتشاف نظرية الذكاءات المتعددة.
4 ـ الأسس العلمية لنظرية الذكاءات المتعددة:
تعددت التساؤلات عن نظرية الذكاءات المتعددة وعن أسسها العلمية ومدى اختلاف ما تدعيه من تعدد الذكاءات مقارنةً بالآراء والأفكار التي سبقتها، والتي ذهب أصحابها إلى القول بوجود عدة ملكات أو قدرات عقلية أو فنية لدى الأفراد.. الخ، فما الذي يميز هذه النظرية الجديدة عن سابقتها؟
يرى جاردنر صاحب هذه النظرية أن ما يذهب إليه من وجود عدة ذكاءات يجد أسسه في ثقافة الشخص، وفي فيزيولوجيته العصبية. فالذكاءات الثمانية التي تقول بها نظريته لها سند علمي في الأسس البيو ـ ثقافية للفرد، والتي هي بمثابة معايير للاستدلال على وجودها. فليس يكفي انتشار ممارسات ثقافية لدى شخص ما، للتعبير عن وجود ذكاء معين لديه، وإنما لا بد من تحديدٍ موضعي للخلايا العصبية التي تشغلها تلك الممارسات في الدماغ، وهذا ما يميز نظريته عن الأفكار والآراء السابقة في الموضوع، والتي قالت بوجود ملكات أو قدرات متعددة، دون سند أو حجج علمية تجريبية.
إن نظرية الذكاءات المتعددة نتاج دراسات وأبحاث استغرقت حوالي ربع قرن من الزمن، تم خلالها تضافر جهود العديد من الباحثين ذوي اختصاصات متنوعة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ولقد تمّ خلال تلك المدة مساءلة عدة ميادين بحثية لم يتم التفكير فيها من قبل، ولقد تمخّضت تلك الدراسات وأنجبت نظرية الذكاءات المتعددة، تلك النظرية التي ساندتها أيضاً النتائج العلمية في علم الأعصاب وعلم المعرفة (الأبستمولوجيا) وأمدتها بسند يذهب إلى القول بتعدد الوظائف الذهنية وتنظيم الفكر بحسب وظائفه المختلفة (فودور 1983 Fodor، كيل 1984 Keil، فيلدمان Feldman، سيسي 1990 Ceci). وفيما يلي أهم الميادين التي شملها البحث في نظرية الذكاءات المتعددة والتي تشكل الدعامة العلمية لهذه النظرية: